إن الحمد لله نحمده سبحانه وتعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلاهادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له جعل الدعاء صلة قوية بينه وبين عباده في السراء
والضراء وفي الشدة والرخاء لأنه إذا دعي في حالة الاضطرار أجاب، وإذا دعي
في حالة المرض أجاب، وإذا دعي في حالة الإخلاص له سبحانه وتعالى أجاب، فهو
القائل في محكم كتابه : "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء" إنه الله
وحده، ليس أحد سواه يجيب لأن الكل عبيد لله وهو ربهم سبحانه وتعالى، بل
يجيب حتى المشركين الذين يخلصون الدعاء عند شدتهم" وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون "
يشركون أيها الإخوة حين تضيق بهم الدنيا بما رحبت، وتشتد عليهم الكروب، وتضطرب بهم أمواج البحار وتصبح السفن التي ركبوها مضطربة ذات اليمين وذات الشمال، تغيب عنهم الآلهة المزعومة التي عبدت
من دون الله ولايبقى هناك أمامهم إلا الله، عرفوا أن الآلهة لايمكن أن تصل
إلى حد الإجابة: آلهة مخلوقة مزعومة لاتملك لنفسها نفعا ولا ضرا ولا موتا
ولاحياة ولانشورا، فلم يبق إذن إلا التوجه إلى الله فدعوا الله مخلصين له
الدين وجاءت الإجابة من الله مع أنهم مشركون.
سبحان الحليم الذي يشرك به العباد في حالة الرخاء وإذا ما أخلصوا له الدعاء في حالة الشدة جاءتهم الإجابة ..
هل من حليم غير الله؟
لا..
هل من عفو غير الله؟
سبحان الحليم العفو الغفور الرحيم الرحمن.
سبحان الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذي الجلال والإكرام
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله أرسله بالهدى ودين
الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، اللهم صل وسلم
عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الصادقين الأخيار وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
معشر المسلمين والمسلمات، عندما تحل الأزمات فإلى أين يتوجه العباد؟
إلى رب الأرض والسماوات.
عندما تحل الأزمات فلمن الفرار؟
فلنفر إلى رب الأرض والسماوات، إلى من بيده حل الأزمات، إلى من يقول للشيء كن فيكون.
ماهو الباب الذي يطرقه العباد إذا ضاقت بهم الأرض بما رحبت واشتدت أزماتهم.؟
إلى باب التضرع والدعاء.."فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا".. لاملجأ من الله إلا إليه "وما أرسلنا في قرية من نبيء إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء"
لماذا؟
" لعلهم يضرعون"
إنه الدعاء أيها الإخوة !
إنه العبادة للرب الكريم !
إنه روح العبادة لله رب العالمين !
فالدعاء مفزع الخائفين، ومأمن الفازعين، وملجأ الفارين، إنه الحصن
الحصين،الذي من دخله لاأحد من العباد يستطيع أن يناله بسوء، (واعلم أن
الأمة كلها لو اجتمعت على أن تنفعك لاتنفك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن تضرك بشيء لاتضرك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).
(ياعباي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، ياعبادي
إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا
يلومن إلا نفسه).
إنه الدعاء أيها الإخوة!.. إنه الدعاء الذي شرع في كل عبادة من العبادات
التي نتقرب بها إلى الله: فالصلاة دعاء، والزكاة فيها الدعاء، والصيام
دعاء، والحج دعاء، وكل عباد لله تعالى أساسها الدعاء، وروحها الدعاء.
إنه الدعاء الذي فزع إليه أبونا آدم حين خرج عليه الشيطان يريد أن يحول
بينه وبين رحمة الرحمن، فزع آدم إلى دعاء ربه بعدما تلقى الدعاء من الله "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين"
أبونا آدم وأمنا حواء خرج عليهما عدوهما ـ وعدونا جميعا ـ الشيطان يريد أن
يحول بينهما وبين رحمة أرحم الراحمين ففزعا إلى الدعاء وتوسلا إلى الله
باسمه الرب "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين".
وفزع إلى الدعاء نوح عليه الصلاة والسلام عندما تكالب عليه قومه وتآمروا
عليه، فزع إلى الدعاء، لكنه دعاء شديد لأن نوحا عليه السلام قد قضى في حقل
الدعوة إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما، فضاق ذرعا بما يفعله قومه، وبصدود
قومه عنه، فتنفس الصعداء إلى الله ودعا بدعاء مجروج مكلوم،حزين مهموم..
ماذا قال؟
"رب لاتذر على الارض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا إلا فاجرا كفارا"
"فدعا ربه أني مغلوب فانتصر "
مغلوب ولكن اللهمعه، والمغلوب إذا كان الله معه ـ بعدحين ـ سوف يكون
غالبا، ماذا حدث أيها الإخوة؟ دعا نوح ربه أني مغلوب فانتصر لدينك ولدعوتك
ولكلمتك ولتوحيدك. لم تتأخر الإجابة لأن الله تعالى قال: "فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا.." جاءت الإجابة بالفاء الدالة على التعقيب مباشرة، لم يقل: ثم فتحنا. لم تكن هناك مهلة بين الدعاء والإجابة بل جاءت الإجابة حينا.
كيف جاءت الإجابة؟
"ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر
قد قدروحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد
تركناها آية فهل من مدكر"
هل من مدكر؟
ابراهيم عليه وعلى نبينا السلام تآمر عليه الطاغوت النمرود مع شيعته
وقومه فعقدوا له مجلس حكم وحكموا عليه بأقسى حكم في الدنيا، حكم النمرود
في محكمته الطاغوتية بأن يحرق ابراهيم بالنار ، بأن يعدم ابراهيم بالحرق
بالنار..
لايعدم بالرصاص لأن فيه خفة وبعض الرحمة بإبراهيم..
لايعدم بالسيف..
لايعدم بالخنجر..
لايعدم حتى بالغرق، ولكن يعدم بالنار حرقا، وليس بمطلق النار حرقا، بل بالنار الشديدة لأن الله حكى حكمه بقوله: " قالوا حرقوه" ولم يقل (احرقوه).. بالغوا في حرقه.
"قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين"
لجأ ابراهيم إلى الله سميع الدعاء بكلمة لجأ إليها نبينا الحبيب، ولجأ
إليها أصحاب نبينا الحبيب إنها كلمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) قال ابراهيم:
(حسبنا الله ونعم الوكيل) ومن كان الله حسبه فهل يستطيع أحد من الخلق أن
يناله بسوء؟
لا..
"ياأيها النبيء حسبك الله ومن اتبعك من المومنين"
فإن أحسنا القدوة بحبيبنا واتبعناه دخلنا في الحسبية والكفاية وإلا خرجنا من الكفاية والحسبية التي ضمنها الله لمن اتبع حبيبه،حسبنا الله.
ماذا فعل الله بإبراهيم؟
أصدر أمره سبحانه وتعالى مباشرة إلى النار، لم يرسل إليها ماء من السماء
يطفؤها ولارياحا ولازلزل الأرض من تحتها، ولا أرسل جماعة من الملائكة
تطفؤها وإنما أمرها أمرا مباشرا لأنه خالقها: "قلنا يانار كوني بردا وسلاما على ابراهيم"
وهل تعصي النار ربها؟
لا..
سمعت النار أمر ربها فتحولت من الحرارة المحرقة إلى جو معتدل ليس فيه حرارة ولا برودة ولذلك قال الله لها: " كوني بردا وسلاما"
أي برد سلامة. فتحولت النار بأمر ربها وإذن خالقها إلى ماذا؟ تحولت إلى
روضة من الرياض تمتع فيها ابراهيم سبعة أيام وهو يسبح الواحد الأحد الفرد
الصمد، وعندما خرج ابراهيم من النار قيل له ماهي أسعد أيامك في الدنيا التي
قضيتها ياابراهيم؟ قال أسعد أيامي هي الأيام التي قضيتها وأنا في النار،
كان مع الله، كان في خلوة مع الله يسبح الله.. يوحد الله.. يذكر الله.. ملأ
قلبه بمحبة الله.
وهذا موسى كليم الله ظل يدعو فرعون وشيعته مدة طويلة من الزمن وما كان من
أمر فرعون إلا أنه يمهل في العداوة لدعوة الله ويهيأ الجنود لمحاربة دين
الله، وهاهو فرعون يجند الجنود ويتهيأ للقضاء على موسى وقومه.
لمن لجأ موسى أيها الإخوة؟
لجأ إلى الدعاء والتضرع، وكان دعاء حارا على غرار أخيه نوح لأنه قد جرح قلبه .
ماذا قال الله عز وجل؟
"ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن
سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يومنوا حتى يروا العذاب
الاليم"
دعوة من قلب قد جرح في الله، وتألم في الله، واشتد أذاه في الله "ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا" واغتر بحلمك. إن الطواغيت يغترون بحلم الله حين يمد لهم سبحانه وتعالى في الحياة كما قال الله : "إنما نملي لهم ليزددادوا إثما" ، "وأملي لهم، إن كيدي متين".
دعهم يزيدون في غيهم حتى يقبضوا والله ليس عنهم بغافل "وأملي لهم، إن كيدي متين" ،"ومهل الكافرين أمهلهم رويدا".
إن الله يمهل ولا يهمل "ولاتحسبن الله غافلا عما يفعل الظالمون".
يا أيها الغافل، لاتحسبن أن ربك غافل!..
لا.. ليس بغافل!
أنت الغافل!
وأما الله فليس بغافلK أبدا ليس بغافل.
وهكذا أيها الإخوة كل الأنبياء يفزعون إلى الدعاء عند الضيق والشدة،
أنظروا إلى نبي الله يونس دعا قومه إلى الله فاستعصوا عليه فترة من الزمن
فقال في نفسه: إن ربي لم يضيق علي مجال الدعوة فل أنتقل إلى قوم آخرين
أدعوهم إلى ربي ولعلهم يستجيبون، فغادر قومه قبل أن يؤذن له، وما كان له أن
يغادر قومه إلا بعد إذن من أرسله، فلما غادر قومه قبل الإذن أدبه
الله،فأدرك العبرة وتيقن الدرس: "وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن ألن نقدر عليه".
لاتتصور أخي أن المراد هنا أن يونس ظن أن قدرة الله لاتشمله. لا.. ظن ألن
نضيق عليه في مجال الدعوة (من قدر يقدر :بمعنى ضيق)، قال تعالى:"الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" أي: يضيق على من يشاء في الرزق ويسوع على من يشاء، وقال : "ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله" أي: من ضيق عليه في رزقه. إذن "ظن ألن نقدر عليه": ظن ألن نضيق عليه في مجال الدعوة فإن كفر بها هؤلاء فهناك قوم لايكفرون بها "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين".
ولكن الله عز وجل أدبه، ركب سفينة وأخذت السفينة تضطرب من ثقل الركب، فساهم مع الراكبين فكان من المدحضين فنزل
إلى البحر بنفسه حتى تخف السفينة فالتقمه الحوت وهو مليم، فلما التقمه
الحوت أصبح تحت ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة مياه المحيطات، وظلمة
الليل.
من يسمع نداءه تحت هذه الظلمات؟
إنه الله سميع الدعاء، السميع المجيب " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب" فأرسل دعاءه إلى السميع العليم "فنادى" من أي مكان "نادى في الظلمات"
ماهونداؤه أيها الإخوة؟
إنها كلمة التوحيد والاعتراف لله صاحبها بالتقصير "فنادى في الظلمات أن لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"
كيف كانت الإجابة؟
هل تأخرت؟
لا..
جاءت الإجابة حينا ولم تتأخر لحظة واحدة، قال الله عز وجل بعد ذلك "فاستجبنا له ونجيناه " ولم يقل (فنجيناه) بل "ونجيناه" لأن النجاة كانت مع الاستجابة في آن واحد "فاستجبنا له ونجيناه من الغم "
وهل انحصرت وتوقفت الاستجابة عند دعاء نبي الله يونس؟
لا.. لا أيها الإخوة ..
إن الذي أجاب يونس يجيب كل من دعا بدعوة يونس بشرط أن يكون مخلصا كما أخلص يونس، أن يخلص لله الدعاء، لذلك قال "وكذلك ننجي المومنين" إن كنت مؤمنا حقا ودعوت الله فالله يجيبك سريعا وفورا بدون تأخر.
اللهم أجب دعاءنا، اللهم أجب دعاءنا، اللهم أجب دعاءنا، ولا تردنا خائبين
ياأكرم مسؤول ويا خير مأمول، لاإله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الأستاذ عبد الله بلمدني
(من خطبة مفرغة)